--------------------------------------------------------------------------------
الأبُ الجائرُ
(بكرة يا بنتي يتعدل)
صحيحٌ ما يقال
: (اللي يعيش ياما يشوف).
أن يدعوَ الإنسان على عدوٍّ له أمر طبيعيّ
, ولكن أن يكون الدعاء على الأب, هذا ما لم أصدّقْه!! وأنا أسمع حكاية هذه المرأة المسكينة, عندما التقيت بها في مجلسٍ, وكانت تحتسب الله على والدها الذي أجبرها على ترك المدرسة في سنٍّ مبكرةٍ, ثم تزويجها لابن أخيه(السيّئ الطبع, العديم الأخلاق).
تقول تلك الضحية
: أجبرني والدي على ترك المدرسة وأنا في الصف الثالث الابتدائي, كي أساعدَ أمي في أعمال البيت, والعناية بالبستان والبقرة.
لن أنسى كيف كنت أجلس على عتبة دارنا عند انصراف التلاميذ لأرمُقَهم بعينٍ كلها حسرةٌ وألمٌ
, حسرة على مقاعد الدراسة وأيام المدرسة.
فبدلاً من أن أحمل حقيبة المدرسة صباحاً
, وأتوجّه بكل حيوية ونشاط إلى مدرستي... كنت أحمل سطلاً, وأخرج مع والدتي قبل طلوع الشمس إلى البستان, كي تحلبَ أمّي البقرةَ, وعليَّ أن أساعدها بقطع العشب من بين الأشجار وتقديمه لبقرتنا...
وتتنهّد بأنفاس الحسرةِ والألمِ
, لتتابع فتقول: وبعد أقلَّ من أربع سنوات, وما إن أصبحتُ في سن الثالثة عشرة من عمري, وفي ليلة سوداءَ كالحةٍ - لن أنساها ما حييت- وبينما كنتُ جالسةً مع والديَّ وإخوتي حول مائدة الطعام قال والدي لأمّي: (جهزوا حالكم, جاينا ضيوف), قالت أمي: من هم؟ قال: أعمامي وكبار العشيرة.
سألته أمي بغرابة
: إن شاء الله ما في شي؟ _ (طبعاً لأنه ليس من عادتهم الاجتماع إلا للأمور الهامة) _ أجاب والدي: ليخطبوا سميرة (لفلان).
وبغير وعيٍ ومن غير عادتها صرخت أمي
: ماذا تقول؟ (هذا السكرجي الحرامي اللي ما يعرف القبلة وين؟!), تريد أن تزوجه سميرةَ هذه الطفلةُ الجميلةُ البريئةُ؟ خاف الله يا رجل...
وما تكاد أمي تنتهي من كلامِها إلا وصفعة كفِّ والدي حطّت على خدّها
, وهو يصرخ: أنا قلت كلمة, ولن أتنازل عنها؟... بكرة يتزوج ويصير آدمي. ثم خرج وصفق الباب.
إلى الآن
, وبعد كل هذه السنين التي مرت لا تزال ترنّ في أذني هذه الأصوات: (صفعة خد أمي, صريخ والدي, وصفقة الباب). كان لهذه الأصوات صدىً غريبٌ في حياتي...
(بكرة يتزوج ويصير آدمي)!***بكرة يا بنتي يتعدل ***
هاتين الجملتين جعلتني أحسّ
- رغم صغر سنّي - أنني حقلٌ من التجارب لابن عمي, ماذا لو لم يتغيّر... وبقي على ما هو عليه؟ كيف ستكون حياتي؟
كنت صغيرة لا أعرف ماذا يعني ((زواج)), وخصوصاً في زماننا, المهم ورغم كل المحاولات التي أبدتها أمّي أصرّ والدي على موقفه, وطبعاً وضع المهر في جيبه, وجهزني بالقليل...
ومرّت مراسمُ العرسِ الذي لا أعرف منه سوى أن ألبس ثوب العرس الأبيضَ
, وأجلسَ في الكوشة, والناس من حولي يغنون ويصفقون.
ثم قِيدَ بي إلى عشّ الزوجية
, دخلنا الغرفة... وأول ما قام به الأفندي فتح (قنينة الوسكي), وطلب مني أن أشرب, رائحة كريهة لم أشمّها من قبل, ولم أتذوقها... ولا أدري ماذا تعني (قنينة الوسكي),
وبدلاً من أن أشم رائحة العطرِ والفلّ والياسمين في غرفتي
, انتشرت رائحة الخمر الكريهة... وبدأ يترنّح يمنةً ويسرة, وبلا رحمة وبكل قسوة مضت تلك الليلة التعيسة... تخيلي _ يا رعاك الله _ إذا كانت أول ليليةٍ في حياتي هكذا!
استمرت حياتي على هذا المنوال
, فبدل أن يعتدل بعد الزواج, جرّني في عالمه القذر المليء بالمحرمات, وإذا ما حاولت أن أعترض أو أمانع, لا أدري من أين يأتي الضرب... ومن المؤكد أن تكون هذه النهاية, (فكيف تغير طفلة بهذا العمر رجلاً بهذه الصفات)؟!
وكلما شكوت إلى والدي يجيبني بالموّال نفسه
: (بكرة يا بنتي يعتدل, هذا ابن عمّك, إذا إحنا ما تحملناه مين يتحمله)؟
وفوق هذا كله, فقد كان عاطلاً عن العمل إلا بمقدار ما يحصل به على (قنينة الوسكي), أو (علبة السكائر), ولم يعد لي حيلةٌ إلا أن أصْبِر وأحتسب أمري عند الله.
لمن أشكو همي وقلة حيلتي؟ لأمي التي
(لا تحل ولا تربط), وليس لها حول ولا قوة أمام جبروت والدي وأعمامي؟ أم ماذا أفعل؟...
مضت الأيام ورزقت بأطفال
... سنوات من العذاب و(التعثير), وخصوصاً أن (المغضوب) كان يدلل أولادي الذكور, ويعاملني والبنات بكل قسوةٍ, بل كان يحرّض أبنائي عليّ وعلى البنات, ويوجههم بنصائحه التخريبية: (لا تطيعوا أمكم, عليكم بأخواتكم, اضربوهنّ, البنت ما تنعطى وجه) ... وهكذا.
بعد كل هذا العذاب جاءه عمل إلى دول الخليج
... قلت: يا الله, علَّه يتغيّر وينصلح حاله, أخذني معه بعد أن استقرّ وضعه, ويا ليته لم يأخذني! ويا ليتني لم أذهب, تصوّري... كان يجلب العاهرات إلى البيت, وفي غرفتي ويطلب مني الخروج إلى الجيران.
وبدلاً من أن تتحسّن أحوالنا وننفض الفقر
, ازدادت عليه الديون, واتُّهم باختلاسات كان نتيجتها أن طُرِد من العمل, ومن دخول الكويت مرة ثانية.
وعدنا من هناك
(صِفْر اليدين), وعندما عدت إلى أرض الوطن كان والدي قد كَبُر وأنهكه المرض, فلما أخبرته عن كل ما حدث لي هناك قال لي: (والله يا بنتي, كسبتُ خطاكِ, وما عاد أجبرك على شي, كنت أظن أنه سيعتدل بعد الزواج... على كل إذا تريدين الطلاق أطلقك).
آه يا والدي
, الآن؟ بعد ما ضاع شبابي, وضاعت أحلى أيام عمري؟ بعد ما صار عندي أولاد؟ أصبحت بين نارين: نار الحياة الجهنمية معه, ونار ضياع الأولاد والطلاق.
تأخرت كثيراً يا والدي في أخذ القرار
, ولا سيَّما أن زوجي قد هددني ببناتي (القُصَّر), قائلاً: إذا رفعت دعوى الطلاق سأتزوج, وأجعل من بناتك خدماً لزوجتي وأولادي. وها أنا ذا أحترق كل يومٍ مئة مرةٍ, لا أدري ماذا أفعل؟ وكيف ستكون النهاية؟
ولا أقول سوى حسبي الله ونعم الوكيل على والدي!
أجهشت سميرة بالبكاء
, كانت تنهداتها تعصر قلبي حزناً وألماً وشفقةً,ثم قامت سميرة وخرجت تجرّ خلفها أذيال الخيبة والحزن والحيرة.